تُقدِّم مؤسسة "مستقبل مصر" نفسها كرافعة اقتصادية واعدة، تتوسّع بسرعة في الزراعة والصناعات الغذائية والطاقة والبنية التحتية. لكن خلف هذا المشهد الملمّع تُخفي تجربة قائمة على تضخيم المشاريع دون دراسة دقيقة للعائد الحقيقي، وهو ما يضاعف من عبء الديون العامة ويُترجم مباشرة في جيب المواطن على هيئة غلاء غير مسبوق وتآكل في القدرة الشرائية. فالاستثمار غير الرشيد لا يُنتج تنمية، بل ينتج تضخمًا، وغيابًا للاستقرار الاقتصادي للفرد.
تشير البيانات المتاحة إلى غياب شبه كامل للشفافية المالية، فلا موازنات منشورة ولا تقارير تدقيق مستقلة. هذا الغموض لا يضر فقط بمبدأ الحوكمة، بل يفتح الباب أمام توسّعات عشوائية تُموَّل من المال العام دون محاسبة. في النهاية، لا تدفع المؤسسة تكلفة قراراتها، بل يتحمّلها المواطن في صورة ضرائب أعلى وأسعار متفلتة وخدمات تتآكل يومًا بعد يوم.
يتجاوز التوسع حدود المنطق الاقتصادي حين تمتد أنشطة الوكالة من استصلاح الأراضي إلى الاستزراع السمكي والطاقة والمدن الجديدة دفعة واحدة، دون تدرّج أو تقييم مرحلي. هذا النوع من التمدد السريع لا يعكس كفاءة، بل يعكس عقلية “الإمبراطورية” غير المحسوبة، والتي كثيرًا ما تنتهي بمشاريع ضخمة قليلة الجدوى، مقابل فاتورة تُسددها الأسر محدودة الدخل عبر موجات تضخم متتالية.
أما على المستوى البيئي، فتبتلع هذه المشاريع كميات هائلة من المياه في بلد يعاني أصلًا من شح مائي شديد. استنزاف المخزون الجوفي واستخدام مياه معالجة منخفضة الجودة والأسمدة المكثفة قد يرفع الإنتاج مؤقتًا، لكنه يدمّر التربة على المدى البعيد. وهنا يتحول السفه من مشكلة اقتصادية فقط إلى كارثة بيئية، تحمل أجيالًا قادمة ثمن قرار غير مسؤول اتُخذ اليوم.
يُقدَّم الاستحواذ على البحيرات والموارد المائية كخطة تطوير، لكن نتيجته الفعلية تقليص أرزاق الصيادين ورفع كلفة الغذاء. حين تُدار الموارد العامة بمنطق السيطرة لا بمنطق الاستدامة، يدفع الأضعف الثمن أولًا. ومع ارتفاع كلفة المعيشة، يتحوّل التضخم إلى نمط حياة خانق بدل كونه أزمة عابرة.
حتى الشراكات مع القطاع الخاص لا تُبنى على قواعد عادلة؛ فغياب الأطر القانونية الواضحة يجعل المستثمرين تحت رحمة مؤسسة لا تخضع للقضاء المدني ولا للتشريعات الاقتصادية الطبيعية. في بيئة كهذه، لا تنمو المنافسة، بل يُدفَن الابتكار، ويُقتل الأمل في سوق متوازن، ويستمر التضخم بوصفه نتيجة طبيعية للاحتكار وسوء الإدارة.
الصورة النهائية التي تتشكّل هي اقتصاد تُديره مشاريع عملاقة بلا عقلية رشيدة، وبلا محاسبة، وبلا رؤية طويلة الأمد. كل جنيه يُدفَع في مشروع غير مجدٍ يتحول إلى عبء على المواطن، وكل قرار متعجّل يتحوّل إلى موجة غلاء جديدة. وبينما تُرفع الشعارات عن “التنمية”، يعيش الفرد في واقع من التقشّف القسري وانعدام الاستقرار.
الخلاصة المؤلمة أن الأزمة ليست في نقص المشاريع، بل في سفه الاختيارات. حين تتراجع الحكمة ويغيب التخطيط، تتحوّل التنمية إلى مسرح استعراض، ويتحوّل المواطن إلى ممول قسري لفشل لا يملك حق الاعتراض عليه. التضخم هنا ليس رقمًا اقتصاديًا… بل مرآة لسوء الإدارة وانعدام الرشد.
https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/12/has-sisi-found-a-competent-military-entrepreneur?lang=en

